Site icon جريدة البيان

مذكرات يهودي

 

كتبت : شيماء اليوسف

 

 

صوت أم كلثوم ينبعث من مذياع بيت من البيوت المجاروة وأنا وحدي أسقي الحديقة بنفسي وألم ما يتساقط من أوراق أشجارها ؛ قرنفلة حسناء تتراقص متسللة نافذة الغرفة فتنام بمنتصفها وزقزقة العصافير تقلقني فدسست بندقية صيد وإختفت العصافير وهربت الأشجار وبقيت وحيداً . بعدما رحلت زوجتي وطفلي متأثرة برصاصة في نزاع بين مسلمين يريدوا أن يبنوا مسجداً وألمان نازيين يرفضون تبادل الفريقان إطلاق النار فراح ضحيتهم نصفي الأخر من الحياة رحلا ولم يغادرا دق القلب لكنهما سجنا الأحلام خلف أبواب مقبرتهما .
كانت روحي تأخذني لزيارة مصر حيث نيلها وطيبوها ملئي الأفق وأصوات ليلها المبلله بالرجاء فوقفت على محطة قطار ملثم يخترق الحقول بعد طول تآمل وحقائب تتراص على أرصفته بعدد النازيين في “ألمانيا ” لم يصب في مخيلتي أبداً أن المصريين جميعهم يسافرون عبر القطار ولا يوجد لي مقعد فارغ حتى وقف لي شاب في مقتبل العشرين من عمره يرتدي لباساً عسكرياً قال شيئاً بلهجة مصرية تفهمت أنه يريد أن يجلسني فوق مقعده فشكرته وجلست . ولجواري شاعر يستيقظ منتبهاً على صدى أجش يخرج من حنجرته يشبه صوته تماماً ثم صاح ينشد قصائده في المسافرين وكآن صوته يرتب هواء العربة في هدوء .
همس أحد الجالسين لصاحبه قائلاً : على جبينها وشم كآنه روافد نهر إنها إمرأة صعيدية . أثار حديثهم إستغراب العميان وتساؤلاتهم ؛ لكني غادرت القطار وخلفه حلقة ذكر تخرج مهللة بالتسابيح والأذكار ، هلال مبتكر جدا بالسماء تعانقه خطى الكادحين من ضغينة على الشارع الممتد يسوق أنفاس مدينة كاملة في صعيد مصر بأسوان ؛ سقطت على أرضها نجمة باردة اشعلت لها إمرأة فتيلاً وكسلتها بالزيت ولما دفئت واستردت عافيتها أطلقتها لكن النجمة لم تغادر الشرفة فلم يبق من النور الإ إختناق صغير يمتد حيث معبد أبوسمبل ومراكب البحر وأناس ذات بشرة شديدة السواد وقلوبهم ناصعة البياض ! طيبون بطول نهرهم بقدر تاريخ بلادهم بحجم بشاشة ملامحهم .
كانت قد إنتهت حلقة الذكر وأعد الناس للشيخ دابته وزودوها بمئونة الرحلة فوقف بينهم وباركهم مستكتماً بالدعاء مستغرقاً في حاله ثم خطب فيهم يقول : أوليتموني مصيركم فهأنذا أترك لكم كسرة خبزي تأكلوا منها حتى تصحوا وأشربوا من قربتي ما شئتم ، أوصيكم بالنساء ولا تأخذوا خراجكم من أفواه الأزقة وفوهة النهار ولا تآمنوا للضياء فأطعموا الطيور وأعتنوا بمن يحمل السماء . ثم سقطت الصومعة على رأس المعتكف فحضرت منيته وكانت سقوط الصومعة حدثاً عجيباً فخرج الناس يودعون شيخهم وعناقيد البكاء تدلى من أعينهم مرتبة بعدل وعناية كإصطفاف حروف الأبجدية ؛ ثم إنصرفوا لا تشعر حتى بوطء أقدامهم .
هاتفني صديق مصري كنت قد تعرفت عليه بأمريكا منذ سنوات دعاني لتناول الغذاء فعدت إلى القاهرة وجلسنا على مقهى شعبي في منطقة ” وسط البلد” فمرت بنفسجة علينا تتمايل بنشوة كآنها تغني لجمهور من العشب كبير ؛ عدت مسرعاً إلى الفندق وظللت طوال الليل أتخيلها وأتذكر شعرها الأسود وعينيها الكحيلة وضحكاتها الرنانة ، كررت هذه العملية سبع ليال متتالية وليلي يطعم صغاره في الخفاء دون أن يعلمهم البكاء . كنت أختبئ وراء مصابيح الشارع وأراقبها وأنا كشرطي خائب لم ينجح في إتمام مهمته فشلت حتى أن أحدثها . فصنعت لها من اللغة ريقاً ومن الحرف خيمة وحين شعرت بالدفء اقتضبت أنفاسي ثم جعلت نفسي ” عرافاً ” وصنعت رُقية من قصيدة وفنجاني أعينها لم تغادر معجمي لم تغادر إيقاع ساعتي وأختفت قبل أن نلتقي كانت لمعة حب زائفة .
كنت أخبئ في معطفي غُلبة من دخان الشموس لأنثرها لها كي تحبني حتى مرت جنازة شاب قادمة من الشارع المجاور سألت أحد المشيعين عن سبب موته أجابني بأن قلبه اصبح كبيراً جداً بالنسبةٍ لجسده بعد قصة حب فاشلة فمات ؛ فشكرت الرب أني لم أغرق في حبها .
استيقظت اليوم باكراً أجهز حقيبتي وتأهبت للسفر وقبل إقلاع طائرتي نحو “برلين ” تجولت شوارع القاهرة فاصطدمت بحائط المعبد اليهودي حيث تقف على بوابته حراسة مشددة لا أعرف لماذا ؟ اللعنة عليّ ! أنه عيد الفصح ؛ كيف أكون يهودياً ولا أتذكر مثل هذا اليوم ؟ يا لسخرية القدر فأنا أعد أغراضي لمغادرة مصر والفصح ذكرى خروج اليهود من مصر بعد أن كان الفراعنة القدماء يستعبدون بنو إسرائيل ثم طردوهم . أنا لا أكفر بالصلوات والمزامير وما جاء به العهد القديم لكن الحقيقة أنا لا أعرف عن اليهودية شئ واستكنر طقوس اليهود الماسونية التي يحتفلون بها في الأعياد فلا أفهم لماذا يشرب المصلون كؤوس الخمر وهم يتلون ترانيمهم فكيف يقبل الرب رجوات العباد وهم سكارى ؟
ثم يوصي الحاخامين أن يبيع اليهود مخزوناتهم من المخبوزات لغير اليهود شرط أن يعيد المشترون ما بيع لهم بعد العيد ! أنا لا أفهم ما الجدوى من هذه الوصية .
ثم ماذا لو رفض المشتري أن يرد البيعة ؟ أو أن المخبوزات أعجبته وأكلها ! كيف نخرجها مرة أخرى من أمعائه وهل سيجوز أن نأكلها بعد إخراجها ؛ ثم يوصي الحاخامين أن يأكل اليهودي سبع أيام متواصله ” فطير ” لكني اتسائل لماذا الفطير ؟ هل ينتمي إلى أسرة ” آل روتشيلد ” هل له صلة قرابة ” ببولفور”
وفي نفس الوقت “التلمود ” ينص بأن تحرق كل المآكولات المصنوعة من عجين ! الأن وقعت في حيرة هل سنأكل الفطير أم نحرقه ؟ ولماذا نحرقه من الأساس ما الذنب الذي إقترفه الفطير كي نحرقه ؟ من الأجدر أن نتركه في حاله وألا نخاطبه سيكون من الأفضل لنا وله .
أنا أعرف أن التوراه محرفة ولكن لا يهمني لأنني بالأساس لا أقرأها ولا أعترف بدولة إسرائيل لأن أصحابها صهاينة يقتلون الأبرياء دون إثم ؛ وليس لنا في أرض فلسطين مرقد ولا مستقر ستوارى أجسادنا تحت الثرى دون أن يبقى لنا ” وطن ” فأنأ أحمل جنسيات متعددة لبلاد عملاقة ولها وضعها في المجتمع الدولي لكني لا أشعر بأي منهم تحضتني وكآني أبنها فنحن لا وطن لنا لا وطن ولن يكن ؛ لكن العرب يدفعون ثمن خيبتهم وتشتتهم وتفرقهم ويستحقون . سأحمل كل ما شادهته خلال زيارتي في فؤادي لزوجتي فقد كانت تحب مصر وسأاخذ من رأحتها عطراً ومن زهرها أريجاً لأصنع منه عقداً وسأضعه أمام قبرها .

Exit mobile version