بقلم : صلاح جنيدي
أنا بطبعي محب للغة العربية ، شديد التمسك بدقة الألفاظ ، أعشق العبارات المحكمة، وأنتقد الأسلوب الركيك .. تعحبنى جدا صياغة المذكرات الهامة وكتابة النصوص المنضبطة، ولا سيما تلك التي تُكتب على طريقة فقهاء القانون؛ حيث كل كلمة توزن بميزان الذهب، وكل جملة تخضع لميزان المنطق والغاية !!
● لكنني – وأقولها بلا مواربة – وقفت عاجزًا أمام هذه الآيات من سورة المائدة. لم أجد في حياتي صياغة تجمع بين البلاغة المطلقة، والصرامة العقلية، والدقة التعبيرية، والتأثير الوجداني كما وجدتها في هذا المشهد السماوي العجيب:
□ قال تعالى:
“وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ۖ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ۚ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ۚ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ۚ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنْتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”
– سورة المائدة، الآيات 116-118
●● في لحظة مهيبة، لحظة لا تحتمل التزييف ولا التبرير، تُفتح صفحة من صفحات الآخرة… المشهد ليس عاديًا، بل هو من أعظم مشاهد القيامة، حيث ينادي الله عز وجل عيسى بن مريم، لا كإله، ولا كنصف إله، بل يناديه “يا عيسى ابن مريم”، وفي النداء وحده زِلزال بلاغي وعقائدي !!
□ لماذا هذا التركيز على النسب؟
لأن المنكرين جعلوه ابن الله، فجاء النداء السماوي ليهدم وثنيتهم في الكلمة الأولى:
– “يا عيسى”: فهو بشر .
– “ابن مريم”: من أم ،،
فهل يُعقل أن يكون “الإله” مولودًا ؟؟
● وهنا تنفجر المفاجأة الكبرى، التي لو سمعها من غلوا في عيسى بقلوب واعية، لارتعدت قلوبهم من الهيبة:
“أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟!”
●السؤال وحده قنبلة…
أسلوب استفهام فيه تحدي، وفيه محاكمة، لكن بلاغيًا فيه ما هو أعمق:
لم يقل “اتخذوني إلهًا”، بل قال:
“اتخذوني وأمي إلهين”!
كأن الله يقول لهم: ألستم أنتم من جمع بين إنسان وأمه في مرتبة الألوهية؟!؟!
● وهنا تنقطع الأنفاس، ويأتي ردّ عيسى عليه السلام في مشهد يجعل الجلود تقشعر :
– “قال سبحانك!”
أول كلمة نطق بها… تنزيه تام لله، وإنكار مطلق للفكرة.
ثم يواصل:
“ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحقّ…”
كأنما يقول: مقام العبودية لا يسمح لي أن أنطق بغير الحق، فكيف أدّعي ما لا أستحق؟!
وهنا قمة البيان: بلاغة عيسى في الرد لا تدل إلا على نبوّته. ليس دفاعًا مرتبكًا، بل بيان رباني، ناصع، متين، يُسقط كل عقيدة منحرفة.
□ ويبلغ الانبهار مداه حين يقول:
. “إن كنت قلته فقد علمته” !!
أي: أنا لا أستطيع أن أخدعك يارب، فأنت علام الغيوب، وأنا عبدك لا أعلم ما في نفسك…
– هل يوجد في كتب الدنيا كلها – أياً كانت فلسفتها أو لغتها – بيان يُقارن بهذا؟
– من ذا الذي يستطيع أن يكتب حوارًا كهذا؟!
– من ذا الذي يمسك القلم، ثم يُخرج هذا التوازن الخارق بين الهيبة، والبلاغة، والصدق، والانكسار؟
لا أحد… إلا الله.
● ويكمل عيسى عليه السلام بجملة فيها إعصار من العقيدة الخالصة:
“ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم”
والله لو كتب البشر مليار صفحة ما استطاعوا تلخيص الرسالة كلها كما لخّصها عيسى في هذه الجملة!
□ “ربي وربكم”… لا إله إلا الله !!
هو ربّي وربّكم، لسنا سواء إلا في العبودية، أنا عبد وأنتم عبيد.
– ثم يقول:
“وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم”
يعني: طالما كنت حاضرًا كنت أراقبهم، لكنك يا رب تعلم أني لم أكن معهم بعد أن توفيتني…
هل يُعقل أن يُعبد من مات؟! هل يُطلب النفع من جسد صعد إلى السماء وتركهم؟!
وأخطر ما في المشهد، والأكثر إثارة ودهشة:
“فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم”
توفيتني؟!
نعم، قالها عيسى، بلسانه، في كتاب رباني خالد
قال: أنا مُتُّ.
فكيف يُؤلَّه من يعترف أنه توفي؟!
– وهنا تنفجر الحقيقة في وجه كل عقيدة منحرفة:
الإله لا يموت… الإله لا يُولد… الإله لا يُسأل بل يسأل.
● ويختم عيسى هذا البيان المهول بجملة تجعل القلب يخشع:
“إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم”
لا يتوسل، لا يجادل، لا يناقش، بل يُسلم الأمر كله لله.
هكذا يتحدث الأنبياء، لا الآلهة المزعومة.
■■ لماذا هذه الآيات إعجاز ؟؟؟
□ لأن تركيبها محكم مثل خيوط الذهب، لا مجال فيه لخطأ أو مبالغة أو ضعف.
□ لأن السؤال البلاغي فيها يُزلزل الشرك من جذوره.
□ لأن رد عيسى فيها لا يمكن لبشر أن يكتبه بهذا التوازن بين الاعتراف والبلاغة والعقيدة.
□ لأنها تعيد تعريف الألوهية والعبودية في سطور معدودة.
□ لأنها تحمل رسالة خالدة بحروف نازفة بالحقيقة:
“لا إله إلا الله، عيسى عبد الله”.
خاتمة :
ها نحن أمام كلمات لا يُمكن أن تكون من تأليف بشر، كلمات تهدم الباطل دون صراخ، وتُثبت الحق دون جدال… مشهد سماوي مكتمل التفاصيل، لا تنقصه بلاغة، ولا يغيب عنه عدل، ولا يفارقه الحق لحظة.
في هذا الحوار الإلهي، سُحِقَت كل تصورات البشر عن الألوهية الملفّقة… وسُجِّل عيسى بن مريم في سجل الخالدين، لا كإله، بل كنبيٍ طاهر، ورسولٍ أمين، وعبدٍ خاضع.
وإن كانت العقول تضل، فإن القلوب التي تبحث عن النور ستجد في هذه الآيات نورًا لا ينطفئ، وحقًا لا يُكسر.
فمن لا تهزه هذه الكلمات…
من لا يبكي من صدقها…
من لا يخشع من عظمتها…
فبمَ تهتدي القلوب إن لم تهتدِ بكلام الله؟!
وبمَ تبصر العيون إن لم تبصر الحقيقة من مشهد الحق هذا ؟؟
هنا يُقال الفصل، ويُعرف الميزان:
“ذلكم الله ربكم فاعبدوه، أفلا تذكرون؟”
لو كنت باحثًا عن الحقيقة… فها هي أمامك.
لو كنت عاشقًا للبيان… فذُق جمال القرآن.
لو كنت أسير شك… فدع هذا المشهد يهدم الحيرة في قلبك.
فهل بعد هذا البيان من بيان؟!
“وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا؟”
فيا لها من آيات… تقف عندها العقول عاجزة، وتخر لها القلوب خاشعة، وتُذهل البلغاء والفقهاء، وتبقى – برغم كل ما قيل – فوق الوصف والتصوير، لأنها ليست من كلام البشر. بل هي كلمات الإله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وكأني أسمع صدى هذه الآيات في كياني كله… “سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق”… فتسري قشعريرة في روحي، وتذوب كبرياء اللغة في حضرة هذا البيان.
وكأنما خُتمت الآيات لتوقظ أعماقنا بهذا المعنى الجليل، الذي قاله الله تعالى في موضع آخر:
“لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله”
[الحشر: 21]. صدق الله العظيم ،،
التعليقات