▪︎ في عالمٍ يقدّس الازدحام و الثرثرة و الغوغاء
▪︎ في زمنٍ يُقاس فيه الجمال بالحجم والعلاقات بالعدد، والكلمات بالكثرة …
لابد أن تنشأ فلسفة معاكسة :
[ ليس كل ما يضاف هو الافضل … بل أحيانآ يكون الكمال بالحذف ]
▪︎ تلك هي فلسفة “الاختزال” — فنّ راقٍ
لا يُتقنه إلا من بلغ من الحكمة مبلغًا ،،
انه الحذف ، أو لنقل بلغة أكثر أناقة: التجريد الواعي، أو التخفف الجميل ،،
في الأدب، ليست البلاغة بكثرة الألفاظ، بل بترتيبها… أو “بحذف” بعضها.
جمال النص أحيانًا يكمن في كلمةٍ لم تُكتب ، أو في عبارةٍ حُذفت عمدًا لتفسح المجال لمخيلة القارئ.
“ما قلّ ودلّ… خيرٌ مما كثر وألهى.” :
فحين كتب إبراهيم ناجي فى ” الأطلال ”
“فتعلم كيف تنسى ..وتعلم كيف تمحو!”
كان يريد أن يعلّمنا أن” المحو ” فنٌ يُحرر القلب من أسره..
وفي القرآن الكريم، تجد الحذف قد بلغ ذروة الإعجاز :
“فصبرٌ جميل” قالها سيدنا يعقوب عليه السلام ،،
لم يقل “سأصبر صبرا جميلا “، بل اختزل الحكاية كلها في نوع الصبر، كأنما المعنى يتدلّى من كلمة واحدة ! فهل هناك أبلغ من هذا ؟؟
و فى فن العمارة: ” الضوء لا يسكن الزحام “
فالمهندس لا يُضيف، بل يُنقّي .. ” التصميم بالحذف “
و المساحات الفضاء ليست عيبًا، بل أحيانًا هي المعنى.. و الخط الذي يُحذَف قد يكون هو الخط الذي يمنح التصميم روحه!!
“Less is more” — القليل هو الأكثر
عبارة خلدها المعماري “ميس فان دير روه”، وبَنَى عليها جيلٌ من الجمال الصامت.
فالفراغ هنا ليس نقصًا، بل هو “الوجود المؤجل”
هو ما يسمح للنور أن يتسرّب، وللجمال أن يتنفس.
الصيام طعام الروح :
و في التغذية… ” الاكتفاء فضيلة” :
الصيام هو حذفٌ للطعام، لكنه غذاء للروح، وتصفية للدم، وتهذيب للنفس .. و شفاء للأجساد ،،
ورد فى الأثر “صوموا تصحوا”.
ويقول ابن سينا: “الطعام نصف الدواء، والامتناع عنه نصف العلاج.” !!
كل لقمة تُزال بعقل، تُضاف لحكمة.
كل وجبة تُختصر، تفتح بابًا للشفاء.
الصمت .. لغة الحكماء :
كم من موقف ندمت فيه على قولٍ؟
وكم من لحظة تمنيت لو أنك سكتّ فيها؟
الصمت ليس غيابًا، بل حضورٌ راقٍ.
إنه ” حذفٌ ” للصوت، لكنه خطابٌ أبلغ !!
قال علي بن أبي طالب “إذا تمّ العقل، نقص الكلام.”
وفي القرآن الكريم :
“فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا” — فصمت السيدة مريم كان أعظم من ألف بيان !!
و فى العلاقات .. القلوب لا تحتمل الزحام :
ليس كل مَن حولك ضرورة ، فبعض الناس يشبهون الضجيج البصري في اللوحات .. إضافات تشوّه الجمال.
فنّ الحياة أن تحذف:
تحذف العلاقة المرهقة .. الذكرى السامة، الوهم ..
“ارحل من حياة من لا يرى فيك قيمة… فالذهب لا يُشرح للعمى.” — مثل ياباني.
الذاكرة .. أن تنسى لتُشفى :
ليست كل الذكريات تستحق الحفظ.
بعضها كغبارٍ على النافذة، لا يمنع الضوء لكنه يشوّهه.
يقولون: “لا تفتح صفحة قديمة وأنت تعرف أن نهايتها أوجعتك.” فالحذف من الذاكرة… بداية حياة جديدة.
الحذف فن العظماء :
“التبسيط” “التنقية” “الاختزال” “المحو” — كلها أفعال ليست سلبية، بل أفعالٌ خلاقة..
من يحذف، لا يهرب من المعنى، بل يخلقه.
من يحذف، لا يُقصي، بل يُضيء.
يقول باولو كويلو:
“كلما خففت الحِمل، زاد المدى الذي يمكنك أن تسير فيه.”
خاتمة:
الحذف ليس غيابًا أو انتقاصا … إنه فنّ العظماء .. إنه فن البقاء ،،
إنه قوة و فلسفة لا يمتلكها إلا مَن أدرك أن الكثرة لا تصنع الجمال، وأن السكون قد يكون أكثر نطقًا من الضجيج .. في زمن الازدحام والانفجار المعلوماتي والعلاقات المتورمة…
فلنتعلم كيف نصغى إلى ما تقوله المساحات الفضاء ،،
و لنتعلم كيف نحذف.
ولنتعلّم كيف نكتفي.
و لنتعلم كيف نمحو !!
” فما يبقى .. فقط هو ما يستحق البقاء “
التعليقات