بقلم المهندس صلاح جنيدي
رئيس هيئة الاوقاف الاسبق
● حين ننبش تراب الأزمنة السحيقة ونفتح جفون التاريخ على ما تبقّى من حضاراتٍ عظيمة، لا نجد قصور الملوك، ولا أسواق الذهب، بل نجد شيئًا واحدًا يتحدى الزمن: دور العبادة. هي الوحيدة التي صمدت، شامخة كأنها حارسةٌ لذاكرة الإنسان الأولى، تهمس من أعماق العصور: “الإيمان هو من بناني”.
● الروح تبني، والجسد يتبع :
▪︎ لم يكن الدين يومًا مجرّد شعائر تُؤدّى فقط ، بل كان قوة دافعة هائلة، تشعل حماسة الجماعات، وتلهم الملوك، وتستنهض أعظم ما في الإنسان من فكر وإبداع. التدين، في أرقى صوره، كان شرارة الحضارة. به تحرّكت الشعوب، وبه بنت، وبه نقشت قصتها على جدران الزمن.
أينما نظرت، شرقا أو غربا، تجد أن أروع ما خلّده الإنسان من حضارة و معمار ، إنما شُيّد في سبيل فكرة مقدسة. المعابد المصرية، المساجد الإسلامية، الكاتدرائيات القوطية، المعابد البوذية — كلها كانت صروحًا للروح، لا للجسد..
● معبد الكرنك: حين ارتفعت الحجارة إلى السماء
وإن أردت أن ترى تجلي هذا الإيمان المعماري في أبهى صوره، فانظر إلى معبد الكرنك، أحد أعظم الشواهد على أن الدين هو ” المهندس ” الأول في تاريخ الإنسانية .
الكرنك لم يكن مجرد معبد، بل مدينة إلهية، بُنيت على مدى ألفي عام، حيث تنافس أكثر من ثلاثين ملكًا مصريًا على نقش اسمهم على اعمدته ،، كل عمود فيه، كل نقشة، كل محور معماري، كان يهدف إلى شيء أعمق من الجمال: إنه الخلود !!
▪︎ في قاعة الأعمدة الكبرى، ترتفع الأعمدة العملاقة كأنها أذرع تمتد للسماء .. في محاولة صامتة للتواصل مع الله . الضوء يتسلل بين الصخور في لحظات محسوبة، كأن الشمس نفسها تشارك هذه الطقوس.. هذا ليس مصادفة، بل تصميمٌ روحي … من وضعوا الخطط لم يكونوا بنّائين فقط، بل كهنة معماريين، يرسمون على الأرض صورة للكون كما يؤمنون به.
▪︎ لم يكن الكرنك مكان عبادةٍ فقط، بل أرشيفًا مقدسًا. على جدرانه كُتب تاريخ مصر : المعارك، القرارات، الأحلام، وحتى التقاويم. لقد صُمم المعبد ليكون شاهدًا على أن الدين لا يبني الجدران فقط، بل يبني التاريخ.
● المعبد مركز المدينة والهوية :
في كل حضارة، كان المعبد هو المركز. لم يُبْنَ في الهامش، بل في القلب، حيث تبدأ منه الحياة وتتفرع.
في بابل، كان المعبد يتوسط المدينة ، كأن الآلهة تقود البشر من الأعلى. .
في أثينا، اعتلى “البارثينون” الربوة المقدسة.
وفي حضارات المايا، كانت المعابد الهرمية الشاهقة تربط بين الأرض والسماء.
● حتى الملوك، حين صعدوا على العروش، لم يشرعوا أولًا في بناء قصورهم، بل في بناء المعابد. رأوا فيها امتدادًا لسلطتهم، وتجسيدًا لمشروعهم الإلهي، وضمانًا لذكراهم في ضمير الزمن.
● الجمال في خدمة التقديس
دور العبادة هي أعظم نماذج الإبداع الفني: الخط، الزخرفة، النحت، التماثيل، الضوء، الصوت، الرمز — كل شيء كان مدروسًا ليخدم لحظة التقديس. المعمار نفسه كان صلاة، والزخارف ” دعاء صامت “.
▪︎ البناء من أجل الخلود :
.. لماذا صمدت دور العبادة و اندثرت القصور؟
لأن الأولى بُنيت لما لا يموت !!
بُنيت لتكون بوصلةً لروح الإنسان حين يضيع، وشاهدًا عليه حين يصمت.
بُنيت من الحجارة، نعم، لكنها مغمّسة في اليقين.
لأنها لم تُبْنَ للناس، بل بُنيت للمعنى، ولأن القلوب تعاهدت على حمايتها. قصور الملوك هُدمت، والأسواق تغيّرت، لكن المعابد والمساجد والكنائس صمدت لأنها لم تكن مجرد مبانٍ، بل مراكز للروح، ومرايا للسماء.
●● خاتمة: حين تبني الروحُ بيد الإنسان :
من الأهرامات إلى الكرنك، من قباب الأقصى إلى كنائس بيزنطة، من معابد الأنكا إلى مساجد الأندلس — نجد دومًا أن أعظم ما شُيّد لم يكن لملكٍ أو مالك، بل لفكرة، لغاية مقدّسة.
الدين، في صورته المعمارية، هو الذاكرة الحية للحضارات. هو الذي أوحى، وألهم، ودفع، وصنع. وحين نبني للروح، لا يعود البناء جدرانًا، بل حكاية لا تنتهي.
التعليقات
دراسة تأملية هندسية فلسفية روحية وتاريخية عميقة، وجميلة جداً..
دراسة تبحر في أعماق الروح البشرية ووجدانها ومسيرتها في البحث عن الحقيقة والنور ، في معتقدات الشعوب، فتضيء على تفاسيرَ روحية لرموزٍ لها قدسيتها وارتباطها بالكون والايمان والإنسان على مرِّ العصور ..
حقاً دراسة رائعة وشيقة في تفاصيل دقيقة ثمينة قيِّمة ، وبأسلوبٍ سلسٍ أنيقٍ وممتع ..
إنها تدل على الثقافة العالية والمعرفة العميقة والبحث الجاد بأمانه ، ومهارة في تقديم المعلومة بأسلوب جزلٍ وشيق وجميل .. حيّاكم الله وبارك الله فيكم سيدي الفاضل وفي عطائكم الكريم..
احترامي وتقديري لحضرتكم 🙏🏻🙏🏻🙏🏻🌸
دراسة تأملية هندسية فلسفية روحية وتاريخية عميقة، وجميلة جداً..
دراسة تبحر في أعماق الروح البشرية ووجدانها ومسيرتها في البحث عن الحقيقة والنور ، في معتقدات الشعوب، فتضيء على تفاسيرَ روحية لرموزٍ لها قدسيتها وارتباطها بالكون والايمان والإنسان على مرِّ العصور ..
حقاً دراسة رائعة وشيقة في تفاصيل دقيقة ثمينة قيِّمة ، وبأسلوبٍ سلسٍ أنيقٍ وممتع ..
إنها تدل على الثقافة العالية والمعرفة العميقة والبحث الجاد بأمانه ، ومهارة في تقديم المعلومة بأسلوب جزلٍ وشيق وجميل .. حيّاكم الله وبارك الله فيكم سيدي الفاضل وفي عطائكم الكريم..
احترامي وتقديري لحضرتكم 🙏🏻🙏🏻🙏🏻🌸
رائعة جداً ، زادكم الله علماً ونفع بكم
ما شاء الله جميل جدا طيب الله انفاسك ورفع قدرك