ها هي ألايام تمر، تسحب معها الشهور، لتجر خلفها السنين والأعمار، ليقف الانسان على محطات فارقة في حياته، تشكلها تارة، وتعيد تكوينها تارة اخرى، وتحدد إتجاهاتها تارة ثالثة، وهكذا يظل المرء أسير تجارب وخبرات قد تغير شكله، وتزيل بعضا من ملامحه، لتصنع منه شخصا اخر في زمن جديد بملامح مختلفة.
بالرغم من المحطات التي واجهتها في حياتي والتي صاغت مني إنسانا مختلفا، شكلا ومضمونا، إلا أن تجربتي مع اخي وصديقي ورئيسى في العمل الاستاذ إبراهيم عارف رئيس تحرير جريدة البيان كانت لها خصوصية مختلفة، فحين قابلته أول مرة لم أكن لاعلم أني سأجد شخصا من نوع أخر، فلم يكن كبقية رؤساء التحرير الذي تعاونت معهم، بعضهم الان يتصدر قائمة مشاهير الاعلام، لكنهم أمام عيني أصغر من أن تلمحهم عدستي المكبرة.
على مدار مايقرب من ثلاثة أعوام تعاونت مع إبراهيم عارف، خرجنا وأكلنا وشربنا وضحكنا وبكينا وفرحنا، اخرج كل منا مابداخله من أسرار ليأتمن بها الاخر، عرفته صحفيا لامعا، له فكر قلما يتمتع به آخرون، يعشق المعارضة كعشقه لوطنه، كان دوما مايقول أن الصحفي المحترم هو من ينحاز للضعفاء ليكون صوتهم الصادح المزلزل لعروش الظلم والطغيان..عشقه لتراب بلده كان قبلته التي تحدد اتجاهاته الصحفية، كان من الممكن أن يقدم التنازل كغيره ليجد نفسه من عليه القوم وصفوة المجتمع، لكنه أبى إلا أن يختار طريق التعب والجهد من اجل الملايين من المقهورين من هذا الوطن، كرس جهده وجريدته لخدمة قضايا وطنه، يكشف الفساد من بواطنه، ويفضح كل المتواطئين، ويساعد في تطهير الوطن من الفسده.
كان لابد من دفع الضريبة، جاءت تلك الازمة الاخيرة التي تعرض لها عارف لتكشف اللثام عن مشاعر كنا نجهلها بداخلنا، فحين تنامى الى مسامعي خبر القاء القبض عليه وأنا بداخل بيتي لم اتمالك اعصابي وإذ بي أجد نفسي فاقد لكل ابجديات التركيز والوعي، مشاعري المتلاطمة الهوجاء التي تلاعبت بي مابين الثانية واختها أفقدتي احساسي بأي شيئ إلا أن أطمئن عليه، وعلى الفور لملمت ماتبقى لي من قوة لاكون برفقته، ساعات مضت وأنات الالم والحزن تنفطر كمدا خوفا وقلقا عليه..دعواتي المتلاحقة لرب السماء، ودعوات الزملاء كانت أملنا الوحيد في أن نستفيق جميعا من هذا الكابوس.
أربعة وعشرون ساعة مضت من القلق والخوف والرعب، ليس على شيئ إلا لاننا نوقن ان ابراهيم عارف شخصية من نوع خاص، براءته وطيبته عائق يحول دون تحمله لاي أذى أو معاملة سيئة، خطواتنا المتلاحقة هنا وهناك، انفاسنا المتتابعة الحارقة لكل مايقابلها، نظراتنا الشاردة التي تبحث عن موطن أمل في أن ينتهي هذا الكابوس، وماهي الا لحظات حين تم الافراج عنه وحين ضممته لصدري شعرت بحنين لم اشعره من قبل، حنين الاخ والصديق، حنين الزميل والمعلم، قد اختلف معك سيادة رئيس التحرير، قد تتعارض افكارنا ورؤانا، قد نؤخذ عليك بعض الامور، قد نحزن لسلوكيات مارستها معنا في وقت ما، لكننا أبدا ماكنا نتوقع أن يكون لكم هذا الكم من الحب بداخلنا، لم اكن لاتخيل أن تحتل بقلبي تلك المكانة التي اكتشفتها خلال اليومين الماضيين، الان فقط استطيع أن اقول لك، حمدا لله على سلامتك.
التعليقات