Site icon جريدة البيان

أحمد العوابدي يكتب..أبابيل فلسطين ووهن المسلمين

في الوقت الذي تحمل إلينا فيه الأنباء ما يحدث في فلسطين من قتل، و تدمير، و خراب، و ويلات تغمر الأرض الحبيبة، يعز القلم عن وصف أهلها، وقلة حيلة أمة إستضعفت في زمنها بسبب فعل حكامها، يلذ القارئ أن يعود إلى التاريخ، و يستعرض فيه قوة المسلمين يوم ما أن كانوا مسلمين على حق يتذكر فيها يوم، أن خضعت اليهود تحت أقدامهم بنصرة من ربهم .
مدت فلسطين خيوطها إلى قلب الإنسان، فأسرته بإخلاص، و إيمان، و صلابة، و عرفان، حيث يكمن فيها التاريخ و الجغرافيا، و العلم، و الأدب، و الروح، و الأمل، في إبداع هام بالجمال، و فتن به، و فتح القلب له، و هاجت العواطف نحوها، في صمت، و سكون، فلم يكفي لغتها، و مكانها، و زمانها، بل دعت النفس إلى أقصاها، و قدسها، و أرضها، و شجرة زيتونها، و صوت صلابة أهلها هائجاً مائجاً جباراً، و راتقاً يدوي في مسامع عُربانها فصموا أذانهم عن خرابها، و حروبها، و أنشغلوا بضعفهم، و هوانهم، و سيطرة حكامهم لوهم، و وعداً أخذوه من ناقضي الميثاق، و العهود ليستولوا على فلسطين، و تكون فريسة لهم، و هذا بعيداً عن أحلامهم، حيث إذا إستولوا عادوا إل حلفائهم، لينقضوا عهودهم و بيانا أرضهم، فهم يهوداً؛ هودوا و تعودوا على نقض عهودهم، كما سُطر في الذكر المفوظ، و حفظ من قبل منذو عقود، يوم ظهور الإسلام على أرض المنان .

 

 

أثر السحر على قلب المسحور، يتطلب من المسحور معرفة جبروت سحرها يتبعه شغف الإنسان بالحسن، و الجمال، فوجد في الطبيعة سحرها، و وجد الإنسان ايضا نفسه في رحاب قدسها، فكان الإنسان قديماً ينظر إلى جمال فلسطين جملة، كما ينظر إلى العالم جملة، فلما تقدم الزمان أخذ بالعين ينظر لها تفصيلاً، فبعد أن صار يعجب بها جملة، أخذ يعجب بأجزاءها تفصيلاً في شروق شمسها، و غروبها، و مستودع أسرارها، و عزيمة أهلها، و قوة قومها، وشباب شيوخها، و كبر أطفالها، و شجاعة نساءها، و صحة مريضها، و ركد قعيدها، و سلطان قهر شبابها .

 

 

فقدسها صنعاً عجيباً، أفسده قردة الأرض، و لكنه يعد، و يوعد، و يرغب، و يرهب، و يرسل مرة شواظاً من نار على الصهاينة، و مرة شهاب من عطف، وحنان علي أهله، يقسو، و يرحم، و ينعم بمصليه، و يؤلم بمعتديه، و يصل مريديه، و يقبلهم، و يصد مغتصبيه، و ينفر منهم، و يحتقر شأنهم، و هو في كل موقف من هذه المواقف يتخذ له وضعاً يناسبه، و شكلاً يوائمه .

 

 

 

و في الحق ؛ إن أهلها أكثر وفاءً لها، و إعترافاً بقيمتها، ومسلمي أرضها و عالمها يعترفون بحقها، ــ غير حكامهم ــ أهلها وضعوا الجهاد أمام أعينهم للدفاع عنها، فكان صغيرهم قبل كبيرهم، ونسائهم قبل رجالهم، وقعيدهم قبل صحيحهم، فإذا عزموا الجهاد، و الدفاع، سترى بعينك منظراً عجيباً! يتجمع فيه الآف من المجاهدين، اتحدوا في التوجه إلى الله على إختلاف الوانهم، و ثقافتهم تربطهم وحدة الدين و الدفاع عن حقهم، و ألقيت بينهم وحدة القصد، شرعوا في مطالبة حقهم المسلوب منهم عنوة في غفلة من ضعف المسلمين، قد نسوا دنياهم، و باعوا أنفسهم لله في الجهاد، و طلب الشهادة، و تعلقت أرواحهم بربهم، يتجلى على وجوههم الوجد و الهيام، يعاهدون الله دائماً، و يستبشرون أملاً، و كلهم متعلقون بربهم، يرجون حياة جديدة عمادها التقوى، و الإخلاص وقوامها الإنسانية و الكرامة.

 

 

 

أتخذ المسلمون القدس قبلة لهم في ظهور إسلامهم،فكان أولي القبلتين وثالث الحرمين، واُسري بنبينا محمد عليه الصلاة و السلام من مكة إلى أرضها في رحلة حفتها الملائكة وملئتها المعجزات، صلي نبينا بأرضها إماماً بكل الأنبياء في الحرم المقدس، ثم أُعرج بأفضل الخلق من رحاب أرضها إلى سماء ربها، و سالت الدماء دفاعاً عن حقها، و حفاظاً على قدساها، فهاجمها البيزنطيين، والصلبيين على مر التاريخ من بداية عهد الفاروق حتى جاء صلاح الدين أيوباً فاتحاً لها فإستمرت حملاتهم، و تضاعفت قواتهم بالتتار على شجرة زيتونها، فظهر الظاهر بيبرس لينقذ نبراسها، و نورها، من أيدي معتديها.

 

 

 

ثم دار الزمان دورته، وأصبح عبيد الأمس رءوساء اليوم، و توالت الأحداث حتى وجد اليهود أنه قد قرب موعد رحيلهم إلى أرض الميعاد ــ كما يزعمون ــ وساندتهم القوى الكبرى التي أحتلت الدول العربية، فأنشغل كلاً منهم بقضيته، حتى نال إستقلالهم على أمل أن يعودوا لنصرة مستضعفي قدسنا ــ و التاريخ شاهد على ذلك ــ و لكن حدث أن نسوا وتناسوا القضية فجاءت الكارثة؛ فلم يجد أهلها سوى المقاومة ليكون إستقلالهم بأيديهم لا بأيدي غيرهم، فاستشهدوا واحد تلوى الآخر حتى وصلنا إلى مشهد نراه اليوم، فتحزن له النفس، ويعصر.

 

 

فلو وهن المسلمون من ضعفاً؛ فأعلموا أن الله فالق الإصباح، ومخرج الحي من الميت، ومخرج الميت من الحي، ولا تزال فلسطين حية، حتى و إن جاءاتها سكرات الموت، فالله مودع روحها، ومقوي عزمها كما كرمها بمسجدها الأقصى، فيظل يتوارث الأبناء من الأباء، كما توارث الأباء من الأجداد المنضالة، و العزيمة، و القوة، فيولد الصغير، ويصرخ صرختاً في وجه الأعداء، فيشقى، و يقوى قلبه بنيران أعدائه، و إن كان خضراً خرج من مهداً، كان مع كل هذا صاحب عزيمة، و قوة، و قلب كالسباع، فإذا أشتد عوده، و قوية صلابته، خرج و في يده سلاح من صلب أرضه، يرمي فيقتل أعداءه، كما فعلت الطير الأبابيل، بأبرهة الحبشي في حادث الفيل، قال الله تعالى: ” ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول” فيسكن الطير الأبابيل محلقاً في سماء فلسطين، فيجتمع و يتحد أبابيل الأرض بأبابيل السماء، ليخرجوا يهود الغدر و رعونة الزمان من أرض سكنتها مرارة الأيام .

 

 

ففلسطين قضية قائمة، و شوكة تعوق مغتصبيها، فإن كانو قد بدلوا وزوروا الحقائق، ولطخوا الأرض الشريفة بدماء قومها، وأستباحوا حرمتها؛ إلا إنها لم تنتهي بعد، فحامل لواء القضية لا يزال حياً، و إن كان شيخاً فانياً، أو طفلاً صغيراً، و إن أمم الإسلام لم تمت فلها يوماً يكون للأسلام فجر ،و شروق، و ضحي، و عصر، و غروب، فلا يلبث الليل حتى ينجلي عن صبح آخر، يكون صبح جديد، فيه كل صفات الصباح من نور و ضياء و إشراق، و دفئ، و حرية، و كرامة، يدفع للحركة، و يبعث للحياة.

Exit mobile version