بقلم : المهندس صلاح جنيدي رئيس هيئة الاوقاف الاسبق
في عالم العمارة الدينية، تتجلّى الرموز لتتجاوز حدود الزمان والمكان، لتصبح لغة الروح والتعبير الوجداني عن معتقدات الشعوب وروحانياتها. إن المعبّد، سواء كان كنسية أو مسجدًا أو مزارًا قديمًا، يحتضن في زواياه وشكله أشكالًا ورموزًا تعبّر عن رحلة الإنسان في بحثه عن النور والخلاص والحقيقة التي تفوق ملامح العالم المادي.
● لغة الرموز: حكاية من عمق الروح ..
منذ فجر التاريخ، كان الإنسان يبحث عن مفاتيح لإدراك أسرار الكون، و قد استنبط من الطبيعة و من التجارب رموزًا تحمل في طياتها معاني الحياة والخصوبة والخلود.
على جدران الكهوف وفي النقوش الأولى على الصخور، تجسدت الرموز الشمسية والنجميّة كرسائل غامضة تربط بين الإنسان والسماء، قبل أن تتحول هذه الإشارات إلى لغة معمارية تعبر عن الروحانيات والمعتقدات.
● الصليب: رمز الخلاص والتجدد في المسيحية :
– في قلب العمارة المسيحية ينبثق الصليب كأيقونة للجمع بين الألم والرجاء، رمزاً لفداء البشرية ونقطة الانطلاق نحو النور السماوي.
▪︎ المعاني والدلالات:
يحمل الصليب في طياته قصة صلب المسيح، إذ يذكّر المؤمنين بمعركة الحياة والموت، حيث يكون الألم بوابةً للتحرر وبدايةً لحياة روحية متجددة. إن وجوده على قمم الأبراج ليس مجرد زخرفة، بل هو رسالة بصرية تدعو الناظرين للتأمل في معاني التضحية والرجاء، وللتذكير بأن النور دائماً يظهر من رحم الظلام.
▪︎ تاريخ الصليب في العمارة:
منذ المراحل الأولى للمسيحية، أصبح الصليب شعارًا للإيمان، يُرفع في أعالي الكنائس ليكون بمثابة منارة ترشد الأرواح إلى السماء وتربط بين الماضي والحاضر في رحلة الإيمان والتجدد.
● الهلال: رمز التجديد والهوية في الإسلام :
▪︎ أما في عالم العمارة الإسلامية، فالهلال يشكل رمزًا جامعًا للتجديد والبدء من جديد، حيث يحمل معاني الانتماء والضوء الإلهي الذي ينير دروب المؤمنين.
▪︎ المعاني والدلالات:
مع أن الهلال لم يظهر كبداية في العهد النبوي، إلا أنه سرعان ما صار علامة مميزة تعبر عن الهوية الإسلامية. فهو يشير إلى دورة التجدد والاستمرارية، مؤكدًا قدرة الروح على الانطلاق نحو آفاق جديدة، وتجسيد بصمات نورانية في كل بداية جديدة تحلّ محل الظلام.
▪︎ تاريخه في العمارة:
وعلى مر العصور، تبنّت الحضارة الإسلامية الهلال كجزء لا يتجزأ من معالم المساجد، حيث يُوضع في قمة المآذن كرمز يُذكر الجميع بعظمة التاريخ الإسلامي وروحانيته، معززًا الشعور بالانتماء إلى حضارة تفخر بماضيها وترنو إلى مستقبل مشرق.
● رمز المثلث في النوبة: ذروة الرمزية وترابط الأبعاد ،،
في قلب النوبة، تبرز الرموز المثلثية كعلامة فريدة لها أبعاد فلسفية وروحانية عميقة.
▪︎ الدلالات والأهمية:
– يُمثل المثلث توازن القوى الثلاث—الماضي والحاضر والمستقبل—ورمزًا للوحدة والتناغم بين الإنسان والكون، كما لو كان يحوي في طياته مفاتيح الحكمة والإلهام. إن وجوده في الزخارف النقوشية والمعابد النوبية يشير إلى قدرة الشعوب القديمة على قراءة أسرار الطبيعة، وانسجامها مع قوانين الكون الخفية.
▪︎ استخدامه الثقافي:
لم يكن المثلث مجرد زخرفة عابرة، بل كان بمثابة رسالة فلسفية تُعبّر عن علاقة الإنسان بالكون، وعن رغبة دائمة في الوصول إلى مستويات عليا من التوازن والانسجام الروحي.
■■ عرائس السماء: حين تتحدث الحجارة بلغة الروح ، أعلى واجهات المساجد :
● تأخذ هذه العرائس أشكالاً تشبه زهرة الزنبق أو اللوتس، بثلاث بتلات تحصر بينها فراغات تتشكل من زهرات شقائق متجانسة، صافية شفافة كأنها اقتطفت من زرقة السماء. يقول ثروت عكاشة: “جاءت تلك العرائس على هيئة زهرة الزنبق، لها بتلات ثلاث، تحصر بين صفوفها الصماء فراغات تتشكل من زهرات شقائق متجانسة، صافية شفافة كأنها اقتطفت من زرقة السماء، وما أشبه ائتلافها بالتمازج القائم بين الروح والجسد”.
كما يرى جمال الغيطاني أن العرائس تشير إلى السماء للأعلى نحو المطلق، وهو خطاب إيماني موجه على مستوى الجماعة إلى الله، كما أنها إشارات روحانية متصاعدة للسماء إلى مركز الكون. ويذكر أن عرائس السماء كانت ترمز أيضًا إلى فكرة الحد بين المقدس والمدنس، أي بين العالم الروحاني داخل المسجد والعالم المادي في الخارج، أو بين السماء والأرض، أو بين الروح والجسد، فهو كما يراه “الحد الذي يليه الفراغ”. وفي بعض كتابات الصوفية، أن عرائس السماء تسبح بحمد الله أو تنشد ترنيمات دينية.
● انعكاسات روحانية: عندما تتحول الأبنية إلى نصوص سماوية:
– كل رمزٍ في العمارة الدينية ليس مجرد عنصر جمالي، بل هو لغة عميقة تتحدث عن تجارب الوجدان والروح. فالرموز مثل الصليب والهلال والمثلث، تتشارك في سرد قصة واحدة: قصة الإنسان في سعيه المستمر نحو النور والمعنى الإلهي. فهي تحوّل جدران المعابد والأبنية المقدسة إلى كتب مفتوحة تروي حكايات من العشق للكمال ورغبة في الوصول إلى الحقيقة المطلقة.
– في كل زاوية من هذه الأبنية تنبض قصصٌ تركت بصمتها على صفحات التاريخ، تُذكّرنا بأن العمارة ليست مجرد تراكيب من الحجارة والخشب، بل هي سجلات روحية حملت في طياتها العزم على الحياة والإيمان والخلود. إن هذه اللغة الرمزية تتجاوز حدود الكلمات وتلامس أعماق الشعور الإنساني؛ فهي لغة الروح التي تبرز جمال التعبير الإلهي وتجمع بين الفن والفلسفة في إطار واحد متكامل يُعبّر عن سر الإنسان المتمرد على الفناء.
●● الخاتمة: رحلة من الروح إلى السماء :
إن ما نحياه في معابدنا هو رحلة لا تنتهي نحو النور، تبدأ من رموز مشرقة على واجهات الأبنية، وتتعمق في أعماق النفس البشرية. الصليب الذي يعلو كنائس المسيحية والهلال الذي يتوج مآذن المساجد ورمز المثلث في حضارات النوبة جميعها معاهدٌ من نورٍ تتحدث بلغة الروح وتخاطب مشاعر العاشقين للحقيقة. إنها حكاية عريقة، رسالة فلسفية منسوجة بين قصائد التاريخ وروعة التعبير الأدبي، تتحدى الزمن وتستمر لتكون مصدر إلهام لكل من يسعى وراء النور والمعنى في هذا الكون الرحب.
بهذا : نجد أن المعبد – سواء كان جسدًا أو روحًا – هو مرآة تعكس عمق الإيمان وجمال التعبير الوجداني الذي لا يعرف حدوداً، لغة حية تنبض بالأمل وتسطع فيها أنوار الخلود.
إنها محاولة لإحياء لغة الرموز التي تزيّن معابدنا وتجسد رحلة الإنسان نحو الكمال، رحلة تأملية يُمكن لكل روح أن تجد فيها سبيلاً للتواصل مع المقدس والجوهر الإلهي الذي لا ينضب.
التعليقات